في 27 تشرين الثاني، وافق «حزب الله» على وقفٍ للنار مختلّ التوازن بقوة لمصلحة إسرائيل، بعدما بذل جهوداً كبيرة للحدّ من هذا الاختلال. فالأميركيون والإسرائيليون كانوا يروّجون لاتفاق يمنح إسرائيل هامش التحرك العسكري الاستنسابي في لبنان. لكن الجانب اللبناني جهد لتعديل النص حتى بات يمنح الطرفين، إسرائيل ولبنان، «الحق في الدفاع عن النفس» إذا ارتأى أحدهما أنّ أمنه معرّض للخطر.
وهذه الصيغة تبدو متوازنة، ولكن «افتراضياً»، أي على الورق، فيما هي واقعياً تخدم إسرائيل التي تمسك وحدها، حتى إشعار آخر، بزمام المبادرة العسكرية. كما أنّها تحظى بتغطية واشنطن التي تضطلع بدور الوساطة ورئاسة لجنة المراقبة. وقد أبرم معها تفاهماً جانبياً تعترف به كملحق للاتفاق.
في الواقع، أُجبِر الطرف اللبناني على القبول بوقف النار، بعدما خفّض مقدار التنازلات إلى أقل ما يمكن، لأنّ الخسائر التي كان يتكبّدها لبنان في الحرب لم تعد تُحتمل، بالمدنيين والدمار والتهجير، من الجنوب إلى الضاحية فالبقاع. ولم يكن خفياً على «حزب الله» أنّ المسار المرسوم لاتفاق وقف النار يستدعي منه التزام القرار 1701، وربما القرارين 1559 و1680 المدرجين في سياقه. فقد تبدّلت ظروف 2006 التي سمحت له بالتعاطي مع القرار 1701 استنسابياً، (وكذلك إسرائيل)، وتجاهُل القرارين الآخرين. لكن رهان «الحزب» معقود على أنّ الضغوط التي يتعرّض لها حالياً ستزول مع تبدل المعطيات الإقليمية والدولية، كما يحصل غالباً، ما يسمح له ببناء قدراته مجدداً، شمال الليطاني في المرحلة الأولى، ثم التمدّد جنوباً كما حصل في السنوات الـ18 السابقة. كذلك، راهن «الحزب» على أنّ الإسرائيليين، الذين نجحوا خلال الحرب في رصد كثير من خطوط إمداده ومخازن سلاحه وضربوها، سيخسرون هذه القدرة بمرور الوقت. وعبّر عدد من كوادر «الحزب» عن هذا الرهان في أشكال مختلفة.
ولكن، في التطبيق، برزت حتى الآن 3 عقد أساسية تقف عائقاً أمام نجاح «الحزب» في رهاناته، وهي:
1- خلافاً لما هو منتظر، لم توقف إسرائيل عملياتها في لبنان على رغم من الاتفاق. وإذ أطلقت عليه صفة «الهدنة» لا «نهاية الحرب»، فإنّها لم تلتزم حتى بهذه الهدنة. وما زالت طائراتها الاستطلاعية تجوب الأجواء اللبنانية في استمرار، فيما هي تمنع الأهالي من العودة إلى عشرات القرى الحدودية وتُواصل عمليات الهدم والاغتيال. ووسط غموض تام في مجريات تنفيذ الاتفاق في تلك المنطقة، أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس تهديداً جديداً بضرب «حزب الله» مجدداً وبقوة إذا لم يبادر إلى الخروج من جنوب الليطاني.
2- العامل الأكثر تأثيراً، والذي لم يكن يتوقعه «الحزب»، هو انقلاب دمشق الذي أوقعه في خسارات عدة مترابطة: خسارة خط الإمداد الإيراني ونقاط العبور الحدودية، وخسارة مخازن السلاح والذخيرة المتموضعة في الأراضي السورية، وخسارة الحليف السياسي الأقرب والأوثق ووقوع سوريا في أيدي خصومه. فـ»الحزب» بات اليوم بلا عمق ولا منفذ بري، وعلى الأرجح في شكل دائم. وقبل أيام، تحدث الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم عن احتمال أن يتدبّر «الحزب» طريقة لاستئناف الحصول على السلاح، فيما أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي رهانه على دور لـ«الشرفاء» في سوريا. والموقفان يؤشران إلى رهان طهران وحلفائها على أحداث تحولات جديدة في الداخل السوري. لكن هذا الاحتمال يبقى ضعيفاً، على الأقل في المدى المنظور.
3- التوازنات الإقليمية والدولية ازدادت معاكَسةً لطهران. ففي العراق، يبدو حلفاؤها مقيَّدي الحركة، وفي اليمن يلوّح الأميركيون والإسرائيليون بضربات كتلك التي نفّذوها في لبنان، فيما لا تتوقف التهديدات بتسديد ضربة حاسمة لإيران، توازياً مع تولّي دونالد ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض.
لذلك، يبدو غامضاً مسار اتفاق وقف النار: لا انسحبت إسرائيل ولا أوقفت عملياتها، ولا أعلن «الحزب» إخلاء مواقعه بكاملها، ولا أعلن الجيش انتشاره التام، ولا الأهالي عادوا إلى قراهم. فكأنّ ما تَحقق حتى الآن، في منتصف مهلة الـ60 يوماً، هو «تجميد» الحرب عند نقطة معينة، لا أكثر. فما الذي ينتظر لبنان بعد انتهاء المهلة في 26 كانون الثاني المقبل؟
البعض يخشى استئناف الحرب. ويستند في ذلك إلى أنّ «حزب الله» سيواجه خيار نزع السلاح ويضطر إلى الردّ على إسرائيل، استناداً إلى قول النائب ابراهيم الموسوي: «هناك حدود لصبرنا».
لكن الجميع في لبنان يدرك أنّ العودة إلى الحرب ستكون كارثية لأنّ لا أفق لها سوى مزيد من الضحايا والتدمير والتهجير. كما أنّها ستكون عبثية لأنّ لبنان سيخرج منها أكثر انهياراً، ما يسمح لإسرائيل بفرض اتفاق أكثر اختلالاً.
إنّه المأزق الذي ربما قاد الطرفين حتى الآن إلى إبقاء الوضع على حاله من الإرباك والغموض. وثمة من يعتقد أنّ إسرائيل يمكن أن تستثمر في هذا الغموض. فإذا كان صحيحاً ما يُقال عن أنّ طموحها الحقيقي هو البقاء في منطقة جنوب الليطاني لفترة طويلة، فهذا يعني أنّها ستتذرع بوجودٍ لـ»حزب الله» وبعدم انتشار الجيش في شكل كامل، لكي تبقى هناك في انتظار ترتيب مزيد من التسويات. ولا شيء يمنع من أن يصبح الموقت دائماً، في جنوب لبنان كما في جنوب سوريا.